ياكوب فوگر

ياكوب فوگر
Jakob Fugger
Albrecht Dürer 080.jpg
پورتريه ياكوب فوگر. بريشة ألبرخت دورر، 1518 (Staatsgalerie Altdeutsche Meister)، أوگسبورگ
وُلِدَ6 مارس 1459
توفي30 ديسمبر 1525(1525-12-30) (aged 66)
أوگسبورگ، الإمبراطورية الرومانية المقدسة
المثوىSt. Anna's Church
الزوج
Sybilla Artzt
(m. 1498)
الوالدان
الأقاربأنطون فوگر (ابن أخيه)
ياكوب فوگر، في متحف التاريخ العسكري للجيش الألماني، درسدن

ياكوب فوگر الزنبقي (ألمانية: Jakob Fugger von der Lilie؛ و. 6 مارس 1459 - 30 ديسمبر 1525)، ويعرف أحياناً باسم ياكوب فوگر الثري، وأحياناً ياكوب الثاني كان مصرفياً ألمانياً بارزاً وسليل أسرة فوگر Fugger في المدينة الإمبراطورية الحرة أوگسبورگ. وُلِد وترقى لاحقاً عبر الزواج إلى المواطن الرفيع لمدينة أوگسبورگ (Großbürger zu Augsburg). في غضون عقود قليلة، وسّع شركته العائلية إلى عمل يغطي كل أوروبا. وقد بدأ تعليمه في عمر الرابعة عشر في البندقية، التي بقيت مقراً رئيسياً لإقامته حتى 1487. وفي نفس الوقت، كان رجل دين وشغل عدة مناصب قيادية. ورغم أنه كان يعيش في دير، إلا أن جاكوب وجد وقتًا لدراسة تاريخ الاستثمار في الأسواق الآسيوية المبكرة. ويقدِّر الصحفي الأمريكي گريگ ستاينمتس إجمالي ثروته بنحو 400 مليار دولار مُعدَّلة لأرقام 2015، وهو ما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا آنذاك.[أ][1][2] فوگر افتتح عصر الرأسمالية ونمو الاحتكارات الخاصة وسيطرة رجال الأعمال بأموالهم على السادة الإقطاعيين الذين يملكون الأرض.

تأسيس ثروة العائلة قام أساساً على تجارة النسيج مع إيطاليا. وسرعان ما نمت الشركة بعد أن بدأ الأخوة أولريش وگيورگ وياكوب في إجراء معاملات مصرفية مع بيت هابسبورگ بالإضافة إلى الكوريا الرومانية، وفي نفس الوقت بدأوا عمليات التعدين في التيرول، ومنذ 1493 استخلاص الفضة و النحاس في مملكتي بوهيميا والمجر. وبحلول عام 1525 كان لديهم حق تعدين الزئبق والزنجفر في المعدن (بإسبانيا).

بعد 1487، كان ياكوب فوگر الرأس "الفعلي" لأعمال آل فوگر التي سرعان ما فرضت سيطرة شبه احتكارية على سوق النحاس الأوروبية.[3] نـُقِل النحاس من المجر عبر أنتوِرپ إلى لشبونة، ومن هناك يُشحَن إلى الهند. ساهم ياكوب فوگر أيضاً في الرحلة التجارية الأولى والوحيدة إلى الهند التي تعاون فيها تجار ألمان، وأسطول برتغالي إلى الساحل الغربي للهند (1505–1506)، بالإضافة إلى رحلة تجارية إسبانية فاشلة إلى جزر الملوك.

بفضل دعمه لأسرة هابسبورگ بصفته مصرفياً، كان له تأثير حاسم على السياسة الأوروبية آنذاك. فموّل صعود ماكسيميليان الأول، وقدّم مساهمات كبيرة لضمان انتخاب الملك الإسباني كارلوس الأول ملكًا على إسبانيا. كما موّل ياكوب فوگر الزيجات التي أدت لاحقًا إلى استيلاء آل هابسبورگ على مملكتي بوهيميا والمجر.

أمَّن ياكوب فوگر ذكراه وشهرته الباقية عبر مؤسساته في أوگسبورگ. A مصلى قام بتمويله وشُيِّد من 1509 إلى 1512 هو أول مباني عصر النهضة الألمانية ويضم مقابر الأشقاء أولريش، گيورگ وياكوب. الفوگراي الذي أسسه ياكوب في 1521 هو أقدم مجمع مساكن شعبية في العالم مازالت مستعمَلة. الدامن‌هوف، الذي هو جزء من الفوگرهويزر Fuggerhäuser في أوگسبورگ، هو أول مبنى غير ديني من عصر النهضة في ألمانيا وقد بُنيَ في 1515.

عند وفاته في 30 ديسمبر 1525، أوصى ياكوب فوگر لابن أخيه أنطون فوگر بأصول للشركة تبلغ قيمتها الإجمالية 2,032,652 گيلدر.[4] وهو من بين أشهر الألمان وربما المواطن الأكثر شهرة في مدينة أوگسبورگ، حيث اكتسب بسبب ثروته لقب "فوگر الغني".[5] وفي 1967 وُضِع تمثال نصفي له في "قاعة والهالا للمشاهير"، بالقرب من رگنزبورگ لتكريم الألمان المتميزين والمستحقين.

السيرة

الخلفية والتعليم والنشأة في البندقية

درع آل فوگر من عائلة الزنابق، الممنوح في 1473

ولد ياكوب فوگر كالطفل العاشر بين أحد عشر طفلاً لأبويه ياكوب فوگر، الأب (1398-1469) وزوجته باربرا بيسنگر (1419-1497)، ابنة مدير صك العملة فرانز بيسنگر. كانت عائلة فوجر قد رسّخت مكانتها كتجار ناجحين في المدينة. هانز فوگر، جدّ ياكوب فوگر، استقرّ في أوگسبورگ عام 1367، وأصبح بورگر، أي "مواطن" عن طريق الزواج، واكتسب ثروة طائلة من تجارة المنسوجات مع إيطاليا. قبل وفاته ببضع سنوات، أصبح ابنه ياكوب فوجر الأكبر من أغنى سكان أوگسبورگ السوابية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة.[6]

بدايات التعدين وتجارة المعادن

خام الفضة الغني (أرجنتيت) من مناجم بانسكا شتياڤنيتسا.


ولقد أصبح يوهان فوجر، وهو ابن نساج، تاجراً للمنسوجات وترك عند وفاته عام 1409 ثروة صغيرة من 3.000 فلورين (75.000 دولار) وتوسع ابنه جاكوب في العمل وعندما مات في 1469 ترك ثروة تعد السابعة بين الثروات في أوجسبورج، واستطاع أولريخ وجاكوب الثاني أبناء جاكوب أن يرقوا بالمؤسسة إلى مكان الصدارة بتقديم المال إلى الأمراء في ألمانيا والنمسا والمجر، وذلك في مقابل الحصول على دخول المناجم أو الأراضي أو المدن. ومن هذه الاستثمارات التي تعتمد على المضاربة جمع آل فوجر أرباحاً فاحشة. وما أن حل عام 1500 حتى كانوا أغنى أسرة في أوروبا.

ياكوب فوگر

الظروف المحيطة

في وقت كانت ألمانيا تخطو فيه أولى خطواتها في عالم التجارة والصناعة حيث كانت الصناعات اليدوية هي المتواجدة في البلاد، وفي ظل سيطرة رجال الأعمال الذين يقدمون المواد الخام ويقومون بعد ذلك بشراء المنتجات من الصناع ويقومون بعد ذلك بعملية تسويقها وبيعها. وكانت صناعة التعدين قد بدأت في النهوض وجـُنِيَت أرباح عظيمة من استخراج الفضة والنحاس والذهب. وأصبحت سبيكة الذهب أو الفضة عندئذ وسيلة لاختزان الثروة، ومكنت حقوق التعدين لأمراء الأقاليم- وبخاصة أمير ساكسونيا وكان يحمي لوثر- مكنت بعضهم من مقاومة البابا والإمبراطور معاً. وسكت نقود فضية يعتمد عليها وتضاعف عدد النقد وتم أو كاد التوصل إلى اقتصاد يرتكز على النقد، وأصبحت حيازة سبيكة فضية أمراً شائعا في الطبقتين الوسطى والعليا، وعرضت بعض الأسر مناضد أو مقاعد من الفضة وتراكمت في الكنائس الألمانية، أوعية وكئوس قداس وجفان بل وتماثيل من الفضة أو الذهب، وجعلت الأمراء يميلون إلى إصلاح ديني يسمح لهم بتصفية الثروة الكنسية. وقد تعجب أنياس سيلفيوس عام 1458 عندما رأى أصحاب حانات في ألمانيا يقدمون بانتظام الشراب في كؤوس فضية وتساءل: "أية امرأة، لا بين طبقة النبلاء فحسب بل بين طبقات الدهماء، لا تتألق بالتحلي بالذهب؟ الممولون الآن قوة سياسية عظيمة، واستبدل بمقرضي النقود من اليهود مؤسسات تديرها عائلات مسيحية من آل ولزر Welser وآل هوخشتتر وآل فوگر، وكلهم من أوجسبورج وكانت عاصمة المال في العالم المسيحي في نهاية القرن الخامس عشر.

ياكوب في عمله

ياكوب كبير آل فوگر

كان جاكوب الثاني عبقري الأسرة لا يبارى ، فقد كان مقداماً قاسياً مجداً. ودرب نفسه ، على طريقة الرواقيين، بدراسة كل مرحلة من مراحل العمل وكل تقدم في مسك الدفاتر والصناعة والمتاجرة والتمويل. وطالب فرد من آل فوجر في سبيل مصلحة الأسرة وأسس المبدأ القائل بألا سلطة لأحد في المؤسسة سوى فرد من آل فوجر ولم يسمح لعلاقاته السياسية بالتأثير في قروضه. وكون اتحادات مع المؤسسات الأخرى للتحكم في سعر المنتجات المختلفة ومبيعاتها، ولذلك عقد عام 1498 هو وأخوته اتفاقاً مع تجار أوجسبورج يقضي "بتضييق الخناق" على سوق البندقية في النحاس ورفع السعر. وفي عام 1488 أقرضت الأسرة 15.000 فلورين للأرشيدوق سجيسموند النمساوي وتسلمت ضمانا للقرض كامل إنتاج مناجم الفضة في شفارتر إلى أن يتم سداد القرض. وفي عام 1492 اتفق آل فوجر مع آل تورزوس من كراكا وعلى قيام اتحاد (كارتل) لاستغلال مناجم الفضة والنحاس في المجر وللحفاظ على "أعلى سعر ممكن" للمنتجات، وما أن حل عام 1501 حتى كان آل فوجر يقومون بمشروعات واسعة للتعدين في ألمانيا والنمسا والمجر وبوهيميا وإسبانيا. وعلاوة على هذا فإنهم استوردوا المنسوجات وصنعوها وتاجروا في الأقمشة الحريرية والقطيفة والفراء والتوابل وثمار الليمون والذخائر والمجوهرات ونظموا نقلا سريعا وخدمة بريدية خاصة، وما أن حل عام 1511 وأصبح جاكوب الثاني المدير الوحيد للمؤسسة حتى كانت أصولها قد وصلت إلى 196,791 جيلدر، وفي عام 1527 (بعد عامين من وفاه) قدر رأسمالها بمبلغ 2.021.202 جيلدر (50.000.000 دولار)- بواقع ربح سنوي قدره خمسون في المائة خلال ستة عشر عاماً.

ولقد حصل جانب من هذا الربح من علاقات آل فوجر بالأباطرة آل هابسبورج في القرن السادس عشر بفضل قروض آل فوجر وعلى الرغم من أن جاكوب لم يعبأ بتحديد الكنيسة للفوائد ومحاولات رجال الكنيسة أن يحددوا "ثمنا عادلا" لسلع المستهلكين فإنه ظل كاثوليكياً، وقدم القروض لرجال الدين للوفاء بنفقات ترقيتهم، وحصل مع أولريخ (عام 1494) على حق إدارة أموال البابا في ألمانيا واسكنديناوة وبوهيميا والمجر، وكان جاكوب فوجر في السنوات الأخيرة من عمره مواطناً مبجلاً ومكروهاً في ألمانيا، وهاجمه بعض الكاثوليكيين باعتباره مرابياً كما هاجمه بعض النبلاء بسبب رشوته لهم للظفر بمنصب أو نفوذ، وبعض التجار لاحتكاراته التي أثارت حسدهم، وسخط عليه كثير من العمال لإلغائه لوائح التجارة والمال في العصور الوسطى، ومعظم البروتستانت لتصديره الأموال الألمانية إلى البابوات. ولكن الأباطرة والملوك والأمراء والبطاركة بعثوا له بالرسل وخاطبوه كأنه أحد الحكام ورسم دورر وبورجكمير وهولبين الكبير صورة شخصية له بدا فيها رجلا واقعيا بسيطا صارما. وأنعم عليه ماكسمليان بلقب كونت الإمبراطورية، وحاول جاكوب أن يكفر عما ارتكبه من خطايا لجمع ثروته ببناء 106 منزلا للفقراء من الكاثوليك بأوجسبرج ، وأنشأ معبداً صغيرا في الكنيسة سانت آنا لتدفن فيه رفاته ومات بوسط جو مضمخ بالقداسة وخلف ملايين الجيلدرات، ولم يعقب ذرية فقد حرمته الحياة أعظم عطاياها.

عملة معدنية سكت في أوجسبورج سنة 1518 تحمل نقش ياكوب فوگر

انتخاب شارل الخامس

فوگر أعطى شارل الخامس الأموال اللازمة لرشوة سبعة منتخِبين لينصبوه امبراطور روماني مقدس في 1519. في المقابل شارل الخامس أنعم على الأسرة بالنبالة ومنحها حقوقاً سيادية على أراضيهم ، بما فيها صك عملتهم الخاصة. ياكوب نجح أيضاً في الحصول على حق بيع صكوك الغفران البابوية، مما ضاعف ثرواته، التي كانت هائلة قبل ذلك، عشرة أضعاف.

ويمكننا أن نقول إنه هو الوحيد الذي افتتح عصر الرأسمالية ونمو الاحتكارات الخاصة وسيطرة رجال الأعمال بأموالهم على السادة الإقطاعيين الذين يملكون الأرض، وكان التعدين وصناعة المنسوجات يرتكزان على أنظمة رأسمالية أي يشرف عليهما من يقدمون رأس المال- في نهاية القرن الخامس عشر، على نسق زعامة الفلاندرز وإيطاليا في صناعة المنسوجات قبل ذلك بمائة عام.

الإحتكار

كان الرأي السائد في العصور الوسطى هو أن الملكية الفردية وديعة عامة إلى حد ما: فحقوق المالك تحددها احتياجات الجماعة التي أتاح نظامها له الفرص والتسهيلات والحماية. وربما في ظل القانون الروماني- وكان قد حجب وقتذاك الفقه الألماني- بدأ المالك يرى أن ملكيته مطلقة وشعر بأن له الحق في أن يفعل بملكه ما يشاء. ولذلك لم يبد من الخطأ لآل فوگر وآل هوخشتتر وغيرهم من "أمراء التجار" أن (يضيقوا الخناق) على إنتاج ثم يرفعوا سعره أو يكونوا اتحادات (كارتلات) لتحديد الناتج والتحكم في التجارة أو أن يمارسوا الاستثمارات بحيث يغشون صغار حاملي الأسهم. وفي عديد من الأمثلة نجد تاجرا يضع وكلاءه على أبواب المدينة ومعهم أوامر بأن يشتروا كل البضائع الواردة من صنف معين حتى يبيعها بالسعر الذي يفرضه في المدينة. وقد اشترى أمبروز هوخشتتر كل ما أمكن الحصول عليه من الزئبق ثم رفع سعر بيع التجزئة بمقدار 75 في المائة. واشترت شركة ألمانية فلفلا من ملك البرتغال بمبلغ 600.000 جيلدر بسعر يزيد على السعر العادي على شريطة أن يتقاضى الملك سعراً أعلى من كل مستوردي الفلفل من البرتغال إلى ألمانيا. وعن طريق هذه الاتفاقات والاحتكارات من ناحية، وعن طريق تزايد الثروة وزيادة الطلب على البضائع من ناحية من أوروبا الوسطى وأمريكا ارتفعت الأسعار بين عامي 1480 و 1520 بسرعة لا نظير لها إلا في قرننا هذا. وقال لوثر شاكياً: "في خلال زمن قصير وبسبب الربا والشح أصبح من كان في وسعه سابقا أن يعيش بمبلغ مائة جيلدر لا يستطيع الآن أن يعيش بمبلغ مائتين". وهي حكاية رويت أكثر من مرتين.

الحياة السياسية والإقتصادية

شهدت العصور الوسطى تفاوتا شاسعاً في السلطة السياسية ، وأضاف عصر آل فوجر الجديد تباينا اقتصاديا لم تعرفه أوروبا منذ عهد أصحاب الملايين والعبيد في إمبراطورية روما، فبعض التجار الرأسماليين في أوجسبرج أو نورمبرج كان عند كل منهم ثروة تعادل 5.000.000 فرنك (25.000.000 دولار؟) واشترى الكثيرون مكانة بين الأرستقراطيين صاحبة الأرض وارتدوا دروعا عليها شعارهم وعوضوا احتقار الأشراف "بإسراف مبالغ فيه"، فقد كان أمبروسيوس هوخشتتر وفرانز باومگارتنر ينفقان 5.000 فلورين (125.000 دولار؟) على مأدبة واحدة أو يقامران في لعبة واحدة بمبلغ 10.000 فلورين. وقد أثارت بيوت رجال الأعمال الأغنياء فاخرة الأثاث والزخارف الفنية استياء طبقة النبلاء ورجال الدين والدهماء على سواء، وانضم الوعاظ والكتاب والثوريون في ثورة عارمة ضد المحتكرين، وطالب يوهان گايلر فون كايزرسبرگ بأن "يطاردوا كالذئاب ما داموا لا يخشون الله ولا الناس وينشرون المجاعة والعطش والفقر". وميز اولريخ فون هوتن أربعة طوائف من اللصوص: لتجار وفقهاء القانون والقسس والفرسان، ورأى أن التجار إنما أخطر هؤلاء اللصوص جميعا. "وطالب مجلس الريخستاج في كولون كل السلطات المدنية بأن تتخذ الإجراءات" بحزم وشدة (ضد كل الشركات الرأسمالية التي تتوسل بالاحتكار والربا). وتكرر صدور مثل هذه القوانين من مجالس نيابية أخرى ولكن بلا جدوى؛ فقد كان بعض المشرعين أنفسهم يستثمرون أموالهم في المحلات التجارية الكبرى، وهدأت سورة غضب حماة القانون بمنحهم أسمها، كما أن كثيراً من المدن ازدهرت بنمو التجارة الحرة.

كانت ستراسبورج وكولمار وميتز وأوجسبورج ونورمبرج واولم وفيينا وراتيسبون (رجنزبورج) وماينز وشپاير وفورمز وكولون وترير وبريمن ودورتموند وهامبورج وماجدبورج ولوبيك وبرسلاو مراكز نشاط اقتصادي مزدهرة بالصناعة والتجارة والآداب والفنون. وكانت هي وسبعة وسبعون مدينة أخرى "مدناً حرة" أي مدناً تسن قوانينها الخاصة وترسل ممثلين لها للمجالس النيابية الإقليمية والإمبراطورية ولا تخضع سياسياً إلا للإمبراطور، وكان بدوره مديناً لها بالعون المالي أو العسكري إلى حد لا يستطيع معه أن يقيد حرياتها. وعلى الرغم من أن هذه المدن كانت تحكمها طوائف حرفية يسيطر عليها رجال الأعمال فإن كل واحدة منها تقريبا كانت حكومة تستهدف الصالح العام. وطبقا للطريقة التي تراعي مصلحة الجماعة وذلك إلى الحد الذي كانت فيه تنظم الإنتاج والتوزيع والأجور والأسعار وصفة السلعة بقصد حماية الضعيف من القوي وتوفير احتياجات المعيشة للجميع. ونحن نطلق عليها الآن بلاداً لا مدناً طالما أن عدد السكان لم يتجاوز في أي منها 52.000 نسمة ومع ذلك فقد كانت آهلة بالسكان كما كان الحال عليه قبل منتصف القرن التاسع عشر وأكثر ازدهاراً من أي عهد قبل جوته، وإينياس سيلفيوس وهو إيطالي مزهو بنفسه كتب عنها عام 1458 يقول:

Cquote2.png لم تكن ألمانيا أغنى ولا أشد تألقا منها قبل اليوم. ويمكن أن يقال دون مبالغة أنه ليس في أوروبا بلد تبزها أو تفوقها في جمال مدنها فهي تبدو طلية جديدة كأنها شيدت بالأمس ولن تجد حرية زائدة مثل هذه في أية مدن أخرى.

ولا يمكن أن نجد مدينة في أوربا أكثر فخامة من كولن بكنائسها العجيبة ومبنى البلدية فيها وأبراجها وقصورها ومواطنها المبجلين من أوساط الناس وجداولها العظيمة. كما أنه ليس ثمة مدينة في العالم تبز أوجسبورج في الثروة. وفي فينا قصور وكنائس تحسدها حتى إيطاليا".

Cquote1.png

إينياس سيلفيوس

ولم تكن أوجسبورج مركزا للمال في ألمانيا فحسب بل كانت أيضاً الحلقة التجارية الرئيسية التي تربط بنيها وبين إيطاليا المزدهرة آنذاك. وتجار أوجسبورج هم الذين كان لهم الفضل في بناء وإدارة الفوندا كوتيديسكو في البندقية التي زين جدرانها جيورجيوني وتيتيان بصورهما الجصية، وكانت أوجسبورج وثيقة الاتصال بإيطاليا حتى أنها رددت صدى النهضة الإيطالية، وآزر تجارها الأدباء والفنانين وأصبح بعض الرأسماليين بها مثالاً يحتذى في السلوك والثقافة إن لم يكن في الأخلاق. ومن ثم نجد أن كونراد پويتنگر Konrad Peutinger، وهو مأمور أو عمدة في سنة 1493، كان دبلوماسياً وتاجرا وأدبياً وفقيهاً وعالماً باللغتين اللاتينية واليونانية وأثرياً ورجل أعمال.

كانت نورمبرج مركزا للفنون والحرف اليدوية أكثر منها للصناعة أو المال على نطاق واسع، وكانت طرقاتها لا تزال ملتوية حسب ما كان متبعا في القرون الوسطى تظللها طبقات بارزة أو شرفات، وأسقفها المغطاة بالقرميد الأحمر وجملوناتها العالية القمة ومشربياتها تكون صورة غير متناسقة في مهادها الريفي وجدول بجنيتز الضخم. ولم يكن الناس بها في بحبوحة من العيش كما هم في أوجسبورج ولكنهم مبتهجون دمثو الخلق ويحبون اللهو والتبذل في مهرجانات مثل الكرنفال الذي يشتركون فيه كل عام ويرتدون فيه الأقنعة وأزياء التنكر ويرقصون. وهناك أخذ هانز ساكس وكبار المغنيين ينشدون ألحانهم المرحة، وارتقى ألبرخت دورر بالتصوير والحفر الألمانيين إلى ذروتهما، وهناك قام صاغة الذهب والفضة شمال الألب بصنع زهريات غالية الثمن وأوعية للكنيسة وتماثيل صغيرة، وهناك قام العاملون بالأشغال المدنية بتشكيل ألف تكوين للنبات والحيوان والإنسان من البرونز أو شكلوا الحديد في سياجات أو ستائر جميلة، وهناك كان قاطعو الخشب من الكثرة إلى حد يجعلنا نعجب كيف تيسرت لهم سبل العيش. وأصبحت كنائس المدن مخازن ومتاحف للفن لأن كل طائفة حرفية أو نقابة أو أسرة ثرية كانت ترسل عملا فنياً جميلاً إلى مزار قديس يحمي الزمار. واختار رجيومونتانوس مدينة نورمبرج موطناً له وقال :"لأني أجد هناك دون صعوبة كل الأدوات الخاصة بعلم الفلك وإنه لأيسر لي هناك أن أظل على صلة بالمتعلمين في كل البلاد لأن نورمبرج، بفضل رحلات تجارها المستمرة يمكن أن تعد مركزاً لأوربا. ومن مميزات نورمبرج أن أشهر تجارها ڤيليبالد پيركهايمر كان أيضاً عالماً بالإنسانيات متحمساً وراعياً للفنون وصديقاً حميماً لدورر، وقد أطلق إرازموس على پيركهايمر :"فخر ألمانيا العظيم".

بزوغ شمال ألمانيا

وعكرت صفو التجارة بين ألمانيا وإيطاليا رحلات دا گاما وكولمبس وسيطرة الترك على بحر إيجة وحروب ماكسمليان مع البندقية، فانتقلت الصادرات والواردات الألمانية شيئاً فشيئاً على طول الأنهار الكبيرة إلى بحر الشمال وبحر البلطيق والمحيط الأطلسي وانتقلت الثروة والسلطان من أوجسبورج ونورمبرج إلى كولون وهامبورج وبريمن وإلى أنتويرب بصفة خاصة. وشجع آل فوجر وآل ويلزر Welser هذا الاتجاه بأن جعلوا من أنتويرب مركزاً رئيسياً لعملياتهم. وأدت حركة المال والتجارة الألمانيين نحو الشمال إلى فصل شمال ألمانيا عن الاقتصاد الإيطالي ودعمت مركزها بحيث استطاعت حماية لوثر من الإمبراطور والبابا. ولعل جنوب ألمانيا ظل مخلصاً للكاثوليكية لأسباب مغايرة.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

  1. ^ Steinmetz, Greg. "Opinion: 7 money-making lessons from the richest man who ever lived". MarketWatch (in الإنجليزية الأمريكية). Retrieved 2021-05-21.
  2. ^ Steinmetz, Greg. The Richest Man Who Ever Lived: The Life and Times of Jacob Fugger, Simon & Schuster 2015, p. xiv
  3. ^ Peter Geffcken: Fugger – Geschichte einer Familie: "Die Handelsherren mit dem Dreizack" [Fugger: History of a family: The merchants with the trident]. In: DAMALS 7/2004
  4. ^ "Anton Fugger". Encyclopædia Britannica.
  5. ^ "Jakob Fugger". The Wall Street Journal.
  6. ^ Häberlein 2006, pp. 20–22


خطأ استشهاد: وسوم <ref> موجودة لمجموعة اسمها "lower-alpha"، ولكن لم يتم العثور على وسم <references group="lower-alpha"/>